Uncategorized

رشفات من سلاف الادب

وَسَائِل تَشْكِيل الصُّورة الشِّعريَّة عِنْدَ العُمَرابِي

أُغنيَّة (هَبَّ النَّسيم) أنموذجًا
دراسة بلاغية أسلوبيَّة
بقلم الأستاذ/ عماد الدين قرشي محمد حسن
شغلت الصُّورة الشِّعريَّة حيّزًا واسعًا من مناهج النَّقد الأدبي ؛ حيث جعلها النُّقَّاد في طليعة وسائلهم لدراسة جوهر الشِّعر، وعنصرًا مهمًا من عناصر بنائه الشِّعري ؛ نظرًا لأهميتها في منح التَّجربة الشِّعرية البُعد الحقيقي للإبداع ، وتُعتبر الصُّورة الشِّعريَّة من أهم وسائط الشَّاعر في نقل تجربته الشِّعرية ، والتَّعبير عن واقعه وخياله ، ويُعدُّ مفهوم الصُّورة الشِّعريّة من المفاهيم النَّقديَّة المعقدة ، فيكاد يكون هناك شبه إجماع على صعوبة إيجاد تعريف شامل لمفهوم الصُّورة الشِّعريَّة ؛ وذلك لتشعُّب دلالاته الفنيَّة، ولن تقف الدراسة هنا على ذلك المفهوم وتحديد مكوناته وعناصره ؛ لضيق مساحة النَّشر. فالصُّورة الشِّعرية باعثة الجمال النَّصي ، والسِّمة المميزة للخطاب الشِّعري ، وعبرها ينتقل النَّص من وظيفته الإخبارية إلى بعده الجمالي ؛ لذا آثرتُ الدراسة النَّهج الذي يعتمد على دراسة الصُّورة الشِّعرية بكل ما فيها من علاقات ، دراسة بلاغية أسلوبية وذلك من خلال رصد جميع أنواع الصُّور الشِّعريَّة التي يحفل بها نص الحقيبة وبيان كيفية نهوضها في التَّعبير عمَّا في نفس الشَّاعر وتأثيرها على المتلقي ؛ فالنَّص الشِّعري لا يعتمد على شاعرية الكلمة في ذاتها بقدر ما يعتمد على توظيفها ، وما تخلقه من إيحاءات ، فالَّلغة ليست مجرد مفردات يقدمها الشَّاعر، إنَّها شحنات شعورية ونفسية تحمل رؤى وأفكارًا . وقد اتخذتْ هذه الدراسة قصيدة (هبَّ النَّسيم) للشَّاعر أحمد محمد حسين العمرابي أنموذجًا حاولتْ من خلاله قراءة الصُّورة الشِّعرية وتلمس وسائل تشكيلها ، وقد جاء اختيار هذا النَّص ؛ لما فيه من طاقة جمالية وإيحائية تعكس بدورها أفكار الشَّاعر، ونظرته إلى الحياة والإنسان والكون .
الشَّاعر أحمد محمد حسين العمرابي يُعدُّ من أشهر شعراء الأُغنية السودانية أو ما يُطلق عليها ( أُغنية الحقيبة) ، وُلِد العمرابي في قرية ( المطمر) التي تقع بين الدامر وشندى في عام 1904م ، و هو من قبيلة الجعليين (العمراب) ، نشأ في بيئة دينية محافظة ؛ حيثُ دفع به والده إلى خلوة الشيخ الفكي بشير ود الرباطابي بقرية (المطمر) ، واتصل بالشيخ الفقيه المرضى ود منصور و تلقى منه الفقه و مبادئ النَّحو و الصَّرف وقرأ الشِّعر العربي القديم ؛ لذلك كان للبيئة والثقافة الدينية والأدبية أثرها الكبير في شعره ؛ فجاء شعرًا رصينًا قويًا جزلًا .
 فالشَّاعر في هذه القصيدة حاول صُنع علاقات سياقية كثيرة أسهمت في بناء صورة شعرية مركبة تقوم على الصورة التَّشبيهية ، والصُّورة الاستعارية ، والصُّورة البديعيَّة والصَّوتية.
الصورة التَّشبيهية :
من أقدم الوسائل الفنية في بناء الصُّورة الشِّعرية وتحديد أبعادها ، ” فهو رسمٌ فنيٌّ يقوم على ملاحظة التَّماثل بين الأشياء وتصويرها بدقة ” ( ) ، فالشَّاعر في البيت التَّالي رسم صورة تشبيهية رائعة إذ يقول فيها :
هبَّ النَّسيم جَاب لي طِيــــب من جـــِــــهة الغُصــــنِ الرَّطيـــب
                 زاد وجــــــــــــدي أنا ما بطيب
فنلاحظ الشَّاعر في هذا المقطع استهلَّ أبياته بتشخيص الطبيعة ودلالتها الرمزية ؛ حيث بدأ بقوله (هبَّ النَّسيم) مستخدمًا الجملة الفعلية للدلالة على التَّجدد والاستمرار ، فالنَّسيم بما يحمله من رائحة ذكية يهبُّ و يتجدد بزمن حركة الغصن الرَّطيب ، فالهبوب جعلت ذات الشَّاعر تدرك حقيقة ذلك المحبوب ، فالصُّورة التي رسمها الشَّاعر في البيت السابق صورة تشبيهية حسية مرتبطة بالشَّم حيث شبَّه (طيب الطبيعة) بــ(طيب المحبوب) ، فالصورة التشبيهية هنا توحي بالغبطة والفرحة المستمدة ممَّا يثيره العطر في النفوس من وقعه وتأثيره ، وكذلك منحتها دلالات السَّخاء والعطاء المرتبطة بطبيعة العطر الفوَّاحة . فالطيب المنبعث من الطبيعة الذي جاء النَّسيم يحمله يُعدُّ (فرعًا) مشبهًا ، وطيب المحبوب التي تنبعث من جهة الغصن الرَّطيب تُعدُّ ( أصلًا) مشبهًا به ؛ فلذلك جاء تشكيل الصُّورة في ذلك التَّشبيه المقلوب( ) ، أو المعكوس كما يسميه بعض البلاغيين ، فجعل المشبَّه مشبَّهًا به بادِّعاء أنَّ وجه الشَّبه أقوى وأوضح في المشبَّه به منه في المشبَّه . ويعدُّ هذا التَّشبيه المقلوب مظهرًا من مظاهر الجمال والإبداع ؛ لأنَّه يحققُ نوعًا من لفت الانتباه من خلال القلب لفهم المعنى ، وبقاء أداة التشبيه في التَّشبيه المقلوب أقوى من حذفها ، لكنَّ الشَّاعر آثر حذف أداة التشبيه هنا في هذا الموضع ؛ ليساوي بين المشبه والمشبه به أي بين ( طيب المحبوب وطيب الطبيعة ) ، وليؤكد أنَّ ليس لأحدٍ فضلٌ وجمالٌ على الآخر لأنَّهما متساويان ، و كذلك من الصُّور التَّشبيهية التي استخدمها الشَّاعر التشبيه البليغ في قوله:
محيك بدر زان الظُلَم والدِّيس على الأكتاف ظَلَم
حيثُ شبه خد محبوبته ومحيَّاها بالبدر الذي يزين و ينير الظلمات ، وهذه صورة قديمة استمدها الشَّاعر من ثقافته الأدبية إلا أنَّها أسهمت بقدر كبير في تشكيل جماليات البيت فالتشبيه هنا زاد المعنى وضوحًا وأكسبه تأكيدًا .
الصورة الاستعارية :
الصُّورة الاستعارية ، وهي ” نمط من التعبير يتم من خلاله الانتقال بالفكرة من المفهوم الحسي إلى المفهوم التجريدي” ( ) ، فنجد ذلك ماثلًا في البيت الثاني حيث يقول فيه :
يا ظبية الـــــــوادي الخصيب سـِــــــــــهام عينيك لي يصيب
                 زاد وجــــــــــــدي أنا ما بطيب
 الشَّاعر في البيت السابق شبه محبوبته بالظَّبية التي ترتع في الوادي الخصيب فيكون منظرها في غاية الحسن والجمال ، فالمشبه ( المحبوبة ) يشكل طرفًا مخفيًا في البنية ، ومستترًا في صورة المشبه به (الظبية) وتلك استعارة تصريحية تقوم على ادعاء أنَّ المشبه المحذوف هو عينه المشبه به المذكور ، وكذلك البيت يتضمن صورة استعارية أخرى في قوله : ” سهام عينيك لي يصيب ” حيث شبه نظرة محبوبته أو سحر عينيها بالسَّهم المُصيب ، فتلك استعارة تصريحية لطيفة ، وكذلك نجد الاستعارة في قوله:
غُصْنِك لَدِنْ مَالْ وانثنى والحفلة حُسْنِكْ حَسَّنه
حيث شبَّه جسم محبوبته بالغصن اللَّدن في تثنيها ومشيتها ، فحذف المشبه على سبيل الاستعارة التصريحية وادعى أنَّ المشبه المحذوف هو عينه المشبه به المذكور.
الصُّورة البديعية و الصَّوتية :
الصُّورة الصَّوتية نراها ماثلة أمامنا في الإيقاع الصوتي الذي أنشأه الشَّاعر؛ فالموسيقى الشِّعرية تُشكل عنصرًا مهمًا من عناصر النَّص الأدبي ، ومكونًا رئيسًا من مكونات التجربة الشِّعرية ؛ فهي علمٌ لُغويٌّ وليس أدبيٌّ ، وأساسه يقوم على الأصوات ، لا على الكتابة ، فنلاحظ في هذا المقطع أنَّ الشَّاعر استخدام محسنًا بديعيًا رائعًا التزم به وهو ” لزوم ما لا يلزم ” ( ) كمصدر من مصادر الموسيقى الداخلية في الشِّعر؛ فنجد قافية المقطع الأول كلها تنتهي بثلاثة حروف متماثلة
( طيب/ الرطيب/ طيب) وفي المقطع الثاني (خصيب/ يصيب / وصيب / نصيب) ، وفي المقطع الثالث 🙁 النحيب / صحيب / الرحيب / بحب) وهكذا في بقية المقاطع ، فكل ذلك ساعد على متانة القافية ، وأضفى على النَّظم قوةً وجرسًا موسيقيًا ساعد على إبراز الكلمات في لحنٍ جيَّاشٍ رائعٍ ، ووَّلد ترجيعًا صوتيًا متجاوبًا في نهاية كل شطر؛ ولعل ذلك سرٌّ من أسرار خلود ذلك الشِّعر . كذلك استخدام الجناس ، وهو من فنون البديع اللَّفظية ، ويعني : ” تشابه اللفظتين في النطق واختلافهما في المعنى ” ( ) ، وقد حفلت القصيدة بأنواع كثيرة منه ، مثل قوله :
ناعسات عينيك غير سِنَة ومن عينيَّ فرَّ النوم سَنَة
فنلاحظ أنَّ الشَّاعر استخدم الجناس الناقص في البيت السابق بين كلمتي ( سِنَة) و (سَنَة) ؛ لاختلاف شكل الحروف ، فالأولى بمعنى: النُّعاس ، وهو مبدأ النوم ، والثانية بمعنى : فترة من الزمن مدتها اثنا عشر شهرًا ، فجاء الجناس قائمًا على التماثل الصوتي بين مصراعي البيت مما حقق تفاعلًا عضويًا بين إيقاع القافية والايقاع الداخلي ممثلاً في الجناس ، وكذلك نجد الجناس الناقص في قوله :
محيك بدر زان الظُلَم والدِّيس على الأكتاف ظَلَم
فنلاحظ في البيت السابق استخدام الجناس جاء على نفس الشاكلة التي أحدثها في البيت السابق ، بين كلمتي (ظُلَم) و(ظَلَم) ، جناس ناقص لاختلاف شكل الحروف فالأولى جمع ظُلْمَة وهي سواد اللَّيل ، والثانية مصدر ظَلَمَ بمعنى جار ولم ينصف ، فأحدث كذلك تماثلًا صوتيًا وترجيعًا نغميًا رائعًا بين شطري البيت ، وهو أمر يدل على تمكن الشَّاعر من أدواته الفنية . وكذلك تكرر الجناس في المقطع الأخير من الأبيات ، إذ يقول فيها :
اللَّيـــــل والصبــــح اتضـــح فوق جيـــدا والتبـــــر انفــضح
اللـُّــؤلؤ الأبيـــــض نضـــح في خديدا والحلي ما وضــــح
فنجد الجناس بين الكلمات ( اتَّضح /انفضح) و (نضح / وضح) ،كلها كلمات تجري على الطبع ، وهكذا ينعقد الجناس في شعر العمرابي بلا تكلف ولا صنعة .
والقصيدة غنيَّة تزخر بطاقة جمالية وإيحائية عالية ، وما هذه الدراسة إلا محاولة لتلمس بعض مواطن الجمال والقيم الفنيَّة فيها بشكل خاص ، وفي شعر(الحقيبة) بشكل عام.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى