Uncategorizedمقالات

ما تشيل هم

منذ تأسيس ما يُعرف بـ”قوات الدعم السريع أدرك السواد الأعظم من السودانيين أن هذه القوات لم تكن يوماً جزءاً من مشروع وطني، بل كانت نقيضاً للدولة ومهدداً لوحدة الوطن. ما قالها الناس حينها بلا خوف أو تردد: هذه مليشيا يجب حلها، لا دمجها… محاسبتها، لا إعادة تأهيلها. وكانت الأصوات عاليه في رفضهم لها والمواقف ناصعة وواضحه، وإعتبروها مليشيا خارجة عن السيطرة تمثّل خطراً جسيماً على تماسك الدولة وأمنها الوطني.. هذا الرفض لم يكن حديث اللحظة، بل كان موقفاً ثابتاً قبل الحرب وبعد إندلاعها، وما زالت شهادات وتصريحات الكثيرين ممن نادوا بذلك موثقة ومحفوظة.

لكن العجب كل العجب، أن الأصوات التي كانت تُطالب بحل هذه المليشيا ورفض تمددها، تُصنَّف اليوم – وبكل وقاحة – بأنها في صفها ومنحازه لها فقط لأنها تقول (لا للحرب) بينما المنحاز الحقيقي يختبئ خلف دخان الحرب لينجو من المحاسبة! المفارقة الأكبر أن من يوجهون هذه الاتهامات هم ذاتهم من دعموا هذه المليشيا بالأمس، و صمتوا عن جرائمها وتجاوزاتها، وساهموا في شرعنتها، و برروها تحت شعارات زائفة، هم ذاتهم أصبحوا اليوم يتصدرون مشهد التخوين.
قلبوا الطاولة، لا عن ذكاء، بل عن غفلة شعب استُنزف وتُرك للنزيف. لكنهم لا يدركون أن هذا الشعب قد يصمت حيناً، ليس غيابًا للوعي، بل تراكمٌ للغضب وحين ينتفض، سيزلزل عروش الظالمين.
انقلبت الموازين وتبدلت الحقائق أمام أعيننا، وأصبح الوطني الحريص على بقاء ما تبقى من الوطن، خائناً في نظر تجار الدماء، بينما يُمنح المبرر الكامل للذين كانوا شركاء في صناعة الكارثة.
لقد تم إحتكار الوطنية بجرأة يحسدون عليها. لم تعد المواطنة حقاً يكفله الدستور، بل صكاً يُمنح أو يُنتزع وفق مزاج المتحكمين في المشهد. كل من اعتلى منبراً، أو تربع على كرسي سلطة – مهما صغُر أو كبُر – ظن أنه يملك مفاتيح الوطن، وبات الوطن مرهوناً بخطاب الإقصاء، ومواطنة البعض مرهونه بالولاء، فيما تُسحب من آخرين لمجرد اختلافهم في الرأي وكثيراً ما نجهل المعايير التي تُبنى عليها هذه الأحكام: أهي الانتماءات الضيقة؟ أم الولاءات الشخصية؟ أم حجم التطبيل؟
لقد أُتقنوا لعبة تزوير الوعي ومعركة تزوير الوعي أخطر من معركة السلاح، ومعركتنا اليوم ليست فقط ضد من يرفعون السلاح، بل أيضاً ضد من يرفعون شعار الحرب بعبارات خادعة، ويُسكتون كل صوت عاقل بدعوى الانحياز.
نحن نعلم من أين بدأ الخراب، ونعلم من تواطأ وسكت وتاجر، ونعلم أن السلام الذي نطلبه ليس ضعفاً، بل مقاومة من نوع آخر. مقاومة ضد التزييف، ضد التلاعب بمشاعر الناس، ضد تحويل الضحايا إلى جُناة والجناة إلى أبطال.
الشعب السودانى لا يطالب بسلام يُفرض من فوهة البندقية، بل سلام يُبنى على العدالة والمحاسبة والكرامة. لا يساوم على الدم، ولا يهادن في الحق، ولا بركع لغير الوطن.
والتاريخ لا يُزوَّر ولا يجامل، لا ينسى، لا يُبرّئ من خان، ولا يخذل من أوفى، والذاكرة لا تموت، ومن وقف ضد الخراب منذ اليوم الأول، لن تنجحوا في شيطنته مهما قلبتم الطاولة ومهما علا ضجيجكم. .
وإن ضاعت الأصوات وسط ضجيج الحرب، فسيبقى صوت الوعي والسلام هو الباقي.
نرفض الحرب لأنها من صُنع تجارها، وننحاز للوطن… لا لمليشيا ولا لسلطة، بل للحق وحده.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى