Uncategorizedمقالات
رشفات من سلاف الادب
جَمَالِيَاتُ الْبَدِيعِ فِي شِعْرِ ” الحقيبة ” (2)
دراسة بلاغية نقدية
بقلم الأستاذ : عماد الدين قرشي محمد حسن
تقدَّم في مقالنا السَّابق ( جَمَالِيَاتُ الْبَدِيعِ فِي شِعْرِ” الحقيبة ” 1) أنَّ شعراء” الحقيبة ” قد برعوا كثيرًا في استخدام بعض المحسنات البديعية فزيَّنوا بها أشعارهم , واستطاعوا أن يوظفوها في شعرهم توظيفًا حسنًا ؛ ليدللوا على مهارتهم اللُّغوية , وتمكنهم من أدواتهم الفنيَّة , وصفاء قريحتهم الشعرية على نحوٍ لا يبدو متكلفًا أو سمجًا , ورصدنا في ذلك المقال مظهرًا من مظاهر البديع تمثلا بوضوح في شعر الحقيبة وهو : التَّصريع, وها نحن اليوم نضيف في الجزء الثَّاني لذات المقال مظهرًا ثانيًا وهو :
ثانيًا : الجناس : من فنون البديع اللَّفظية , وهو عند البلاغيين : ” تشــابه اللفظتــين فــي النطــق ، واختلافهما في المعنى. ” ( ) , وهو ينقسم إلى نوعين: تام وغير تام .
فالجناس التام : هو ما اتفق فيه اللَّفظان في أربعة أمور: هي أنواع الأحرف ، وأعدادها، وهيئتها الحاصلة من الحركات والسكنات، وترتيبها. وهذا هو أكمل أنواع الجناس، وله عدة أقسام ، أما الجناس غير التام ، وهو ما اختلف فيه اللَّفظان في واحد من الأمور الأربعة السابقة التي يجب توفرها في الجناس التام . وله كذلك أقسام كثيرة.
الجناس من أكثر أدوات البديع التعبيريـة تـأثيرًا فـي الإيقـاع الصـوتي والـدلالي ، والجناس مظهر من مظاهر التكرار أو (ضرب من ضروب التكرار المؤكد للنَّغم من خلال التشابه الكلي والجزئي في تركيب الألفاظ ، فهذا التشابه في الجرس يدفع الذهن إلي التماس معنى تنصرف إليه اللَّفظتان بما يثيره من انسجام بين نغم التشابه اللَّفظي ومدلوله على المعنى في سياق البيت)( ).
والمتتبع لشعر” الحقيبة ” يجد أنَّ شعراء” الحقيبة ” قد حفل شعرهم بأنواع كثيرة للجناس , مثل قول الشَّاعر أبو صلاح :
شوف العين قالت ده لا لا صدَّت مــــن تيها ودلالا
اجتمعت في هذا النَّص عدد من المحسنات البديعية , لكن عنايتنا هنا بالجناس , فالشَّاعر استخدم الجناس التام في البيت السابق حيث جانس بين كلمة ( ده لالا) في عروض البيت , وكلمة ( دلالا ) في ضرب البيت , فالأولى فيها إنكار للشاعر بمعنى: (هذا ليس هو) , والثانية بمعنى
التَّغنُج والتَّدلل , والاسترخاء في التربية والتأديب) , فجاء الجناس التام قائمًا على التَّماثل الصوتي بين مصراعي البيت , مما حقق تفاعلاً عضوياً بين إيقاع القافية والإيقاع الداخلي ممثلاً في الجناس التام ؛ فولَّد ذلك ترجيعاً صوتياً متجاوباً بين الشطرين , وكذلك استخدام الجناس التام في البيت الثاني , الذي يقول فيه :
ريدتك ساكنة الجوف خِلالا والأعضاء امتزجت خِلالا
يقول الشَّاعر في البيت السَّابق على الرغم من نفورك وصدك إلا أنَّ حبك قد سكن وحلَّ بجوفي وامتزج بأعضائي , فقد جانس الشاعر بين كلمة ( خلالا ) في نهاية الشطر الأول , وبين كلمة ( خلالا ) التي جاءت في نهاية البيت , الأولى بمعنى : (حلَّ) , والثانية بمعنى (امتزج) , فأحدث ذلك الجناس ترجيعاً نغمياً رائعاً بين شطري البيت , وهو أمر يدل على تمكن الشاعر من أدواته الفنيَّة , وقدرته على الصِّياغة اللغوية على نحو لا يبدو متكلفاً أو سمجاً . وهكذا تسير القصيدة على هذا النَّمط الفنيّ البالغ الروعة والجمال , وقد ساعده في ذلك الثروة اللُّغوية الواسعة , والخيال الخصب الذي تمتع به وتلك الملكة الشعرية والذَّوق السَّليم .
ومن أمثلة الجناس التام أيضًا قول الشَّاعر ود الرَّضي :
هيَّابْ رَعَّابْ جَمَالْ فَاتِنْ وَلا شيء فِي الأدَبْ فَاتِنْ
نلاحظ التجانس في البيت السَّابق بين كلمة (فاتن) في الشطر الأول , وكلمة (فاتن) في الشطر الثاني , الأولى بمعنى (ساحر, جذَّاب, مثير) , والثانية بمعنى:( ذهب , ومضى ) فالجناس هنا انعقد بسهولة لا تشعر فيه بتكلف ولا صنعة , بل إنَّه يجري على الطبع , كما أنَّه أضفى على البيت نغمات إيقاعية متناظرة .
أمَّا الجناس الناقص فهو كثير في شعر” الحقيبة ” فمن أمثلته: بيت الشَّاعر علي المساح :
أنتَ بدرُ السَّما في صفاك قولي من عيني من خفاك
حيث جانس بين ( صفاك ) و( خفاك ) , ولعلَّ هذا النوع من الجناس يطلق عليه (الجناس اللَّاحق) وهو: ” ما اختلف فيه اللَّفظان في أنواع الحروف، فيشترط ألا يقع الاختلاف بأكثر من حرف واحد، ويكون الحرفان فيه متباعدان في المخرج ” ( ). فأضفى الجناس على موسيقى البيت نغمات إيقاعية متناظرة ، ومن ذلك أيضاً قول الشَّاعر ود الرَّضي :
لاَ يَبْرُدْ حَمِيمِي لَوْ أَحْسَى البَحَرْ دَارِى ومَاكْ مِدَارِى يَا سَمْحَ النَّحَرْ
نلاحظ التجانس في البيت السابق بين كلمتي ( البحر) بمعنى المجمع العظيم للماء المالح , و (النَّحر) بمعنى العنق أو الجيد ، جناس ناقص، والفرق بينهما في صوتي الباء والنون , فالباء صوت شفوي انفجاري مجهور , والنون صوت لثوي أنفي مجهور, بينهما نوع من التشابه أو التماثل . ونكتفي هنا بتلك الأمثلة التي أشرنا إليها في هذا الموضوع على أمل أن نكمل الدراسة في العدد القادم بإذن الله.
ReplyForward
|