Uncategorizedمقالات
رشفات من سلاف الادب
جَمَالِيَاتُ الْبَدِيعِ فِي شِعْرِ ” الحقيبة ” (1)
دراسة بلاغية نقدية
بقلم الأستاذ : عماد الدين قرشي محمد حسن
تحاول هذه الدِّراسة الموسومة بـ : “جماليات البديع في شعر” الحقيبة ” ” دراسة الأنواع البديعية التي وردت في شعر الأغنية السودانية التي يطلق عليها ” الحقيبة ” ؛ بحثًا عن أسرار بلاغتها , والكشف عن جمالياتها , ولعل الدافع لهذه الدراسة هو: براعة شعراء” الحقيبة ” في استخدام المحسنات البديعية وتوظيفها في شعرهم ؛ ليبقى هذا الملمح الفني سرًا من أسرار خلود شعر” الحقيبة ” , فتحدَّدتْ مشكلة البحث في : ” أين تكمن جماليات فن البديع في شعر” الحقيبة ” ؟ ” .
علم البديع فنٌّ من فنون علم البلاغة العربية , احتلَّ مكانًا مرموقًا في اللُّغة العربية عامة , والبلاغة خاصة ؛ وذلك لما أتى به من جمال المعنى وجلال اللَّفظ , وهذا الفنُّ جذب شعراء العربية بشكل عام , وشعراء “الحقيبة” بشكل خاص , واستخدمه شعراء” الحقيبة ” في تزيين أشعارهم وتوشيحها دون كلفة أو قصد في أكثر المواضع , ولضيق مساحة النَّشر هنا لم أتتبع تعريفات مصطلح البديع , أو تاريخه , أو نشأته , أو خلاف علماء البلاغة في تسميته وقضاياه , بل اكتفيت فقط بالتَّعريف العام الذي أورده الخطيب القزويني في كتابه التَّلخيص : ” علم يعرف به وجوه تحسين الكلام بعد رعاية المطابقة ووضوح الدلالة ” ( ) , ويقسِّم علماء البلاغة المحسنات البديعية إلى قسمين : محسنات معنوية , مثل : الطباق والمقابلة والتورية وحسن التعليل وغيرها , ومحسنات لفظية مثل: الجناس والسجع والتصريع والتقفية وحسن التَّقسيم ورد العجز إلى الصدر وغيرها , والمتتبع لشعر ” الحقيبة ” يجد أنَّ شعراءها أكثروا من استخدام المحسنات البديعية – لفظية أو معنوية – في شعرهم , ونحاول هنا أن نرصد بعض هذه المحسنات :
أولًا : التَّصريع : عرَّفه ابن رشيق القيرواني بأنَّه : ” ما كانت عروض البيت الشعريّ فيه تتبعُ الضرب، فتزيد بزيادته وتنقص بنقصانه ” ( ) ، وقد أخذوا هذا الاسم من مصراعي الباب , قال التنوخي : ” إنَّما حسن ذلك في استفتاح الشعر لأنَّ البيت الأول بمنزلة باب القصيدة الذي يستفتح به ” ( ) , وكان النٌّقاد ينظرون إلى الشَّاعر الذي لا يصرع قصيدته ” كالمتسور الداخل من غير باب” ( ) , وقسَّم ابن أبي الأصبع التَّصريع إلى قسمين : عروضي وبديعي ، فالعروضي : ” هو اتفاق ضرب البيت وعروضه في الإعراب والتقفية والوزن ” ( ) ، أمَّا البديعي: فهو ” اتفاق آخر جزء في الصدر مع آخر جزء في العجز إعرابًا ووزنًا وقافية ” ( ) , ولعل بحثنا هنا يتعلق بالتَّصريع البديعي في شعر” الحقيبة ” .
والتَّصريع يعدُّ عنصرًا من عناصر براعة الاستهلال ؛ لأنَّه يأتي في مطلع القصيدة , وهو من الأبنية الإيقاعية المميزة لمطالع الشعر العربي منذ القدم , ويدل على أهميته وفضله أنَّ أبا تمَّام ضرب به المثل , فقال :
وتَقْفُو إلى الجَدْوَى بجَدْوَى وإنَّما يروقكَ بيتُ الشعرِ حينَ يصرعُ
وربَّما يصرع الشَّاعر في غير ابتداء ؛ وذلك إذا خرج من وصف إلى وصف آخر, وقد صرَّع المجيدون من الشُّعراء القدامى والمحدثون أبياتًا أُخر من القصيدة بعد البيت الأول ؛ وذلك يكون من اقتدار الشَّاعر وسعة بحره ، ودليل على قوة الطبع , ولكنه إذا كثر في القصيدة يدل على التَّكلف والقصد , وأكثر من كان يستعمل ذلك من القدماء امرؤ القيس مثل قوله :
قِفا نَبكِ مِن ذِكرى حَبيــــبٍ وَمَنزِلِ بِسِقطِ اللِوى بَينَ الدَخـــــولِ فَحَـــــومَلِ
ثم أتى بعد هذا البيت بأبيات , فقال:
أَفاطِمَ مَهلاً بَعـــــضَ هَــــذا التَــــدَلُّلِ وَإِن كُنتِ قَد أَزمَعتِ صَرمي فَأَجمِلي
ثم أتى بأبيات بعد هذا البيت , فقال:
أَلا أَيُّها اللَيلُ الطَويلُ أَلا اِنجَـــــلي بِصُبحٍ وَمــــا الإِصباحُ مِنـــــــــكَ بِأَمثَلِ
وشعراء” الحقيبة ” معظمهم أكثروا من استخدام هذا المحسن البديعي , ونستطيع أن نتلمس ذلك من خلال هذا المقطع الشعري للشَّاعر محمد ود الرَّضي الذي يقول فيه :
يَلُوحَنْ لَيْ حَــــمَامَا تِنْ هَمَنْ عَينَيْ غَمَامَا تِنَ
تَتـُوقْ الرُّوحْ لِشُوفَاتِنْ وأرْجِـفْ حِيـــنْ مُوَافَاتِنْ
فنجد المحسن البديعي التَّصريع واضح ، حيثُ تشابهت نهايتا الشّطرين في الإعراب والوزن والقافية ، فجاء نهاية الصَّدر( حَـمَامَاتِنْ ) على وزن: (مفاعيلن)، متناغمة بنفس الجرس مع نهاية العجز( غَمَامَاتِنَ ) , على وزن: (مفاعيلن) .
وهذا الشَّاعر محمد بشير عتيق يقول في قصيدته ( في رونق الصبح البديع) :
ها هي الطبيعة الكون تحلا بمنظرا للعالمين سفرت بأحلى مظاهرا
فنجد التَّصريع بين ( منظرا ) في نهاية الشطر الأول , و( مظاهرا ) وسرُّ جمال التَّصريع هنا أنَّه أحدث نغمًا موسيقيًا أطرب الأذن . وهذا أبو صلاح يصدح بالتَّصريع بأعلى صوته , ويترنم بأعذب الألحان , من قصيدته المشهورة ( يا جوهر صدر المحافل) التي يقول فيها :
ما النــــــور الفي حِلّيه رافـــــل في حُـق نًهده قلوبنـــا قافــــــــــل
ما الظبي الفي مقيله غافــل تــــارة يميــل والتــــانية جافـــــــــل
نجد المحسن البديعي التَّصريع في البيت الأول تمثل في (رافل) التي تتجاوب صوتيًا مع ( قافل) في القافية , فيحقق تجاوبها الشَّكل الظَّاهري للتَّصريع ويتكرر هذا التَّصريع في بقية الأبيات كلها , وغايته أنَّه ساعد على تقوية جانب الربط في النَّص الشعري , كما أسهم في تثبيت إيقاع القصيدة على نمط ثابت , والأصل أن يكون في البيت الأول كما ذكرنا آنفًا , ولكنَّ الشَّاعر خرج عن ذلك وأتى بأبيات أخرى بعد البيت الأول , ورغم ذلك أحكم الشَّاعر قبضته عليه ؛ فجرى على الطَّبع دون تكلف في سائر القصيدة , وهذا فنٌّ لا يحسنه كل الشعراء . وكذلك نجد التَّصريع في أبيات الشاعر أبو صلاح في قصيدته 🙁 الطريف الشايل سيف رمشك جرَّاح) التي يقول فيها :
الطِّــــريف الشـايل سيف رمـش جـرّاح خــافـِـر دُر الفاطر والمسك والــــرَّاح
في الجـبين مكتـوبة الريـــــدة بالألــــواح زيدني حـباً فيــــــك يـــــمـازج الأرواح
فحين نعيد قراءة البيتين السابقين نلحظ وجود نغم موسيقي ترتاح الأذن لسماعه , فالتَّصريع هنا أدَّى وظيفة جمالية فحقَّق عملية التَّواصل المنشودة بين الشعر والمتلقي , كما أنَّ استخدام الشَّاعر لحرف الروي «الحاء» بالإيقاع النغمي ذي الجرس الموسيقي الذي يساعد على إثارة المتلقي، فهو من الحروف المهموسة ، فمن خصائصه عند التَّلفظ به يسمع منه نوعٌ من الحفيف في الحلق، ويرتبط ببنية القافية بنغم موسيقي هادئ يعبِّر عن همس الشَّاعر في بنية الوحدات اللَّفظية والتَّعبيرية (جَرَّاح) , و( وَالرَّاح) , و( الألواح) , و( الأرواح) .
نكتفي هنا بهذا القدر ولنا عودة بإذن الله في العدد القادم .
ReplyForward
|