Uncategorizedمقالات

رشفات من سلاف الادب

جَمَالِياتُ التَّشْكِيلِ وَ بَرَاعَةُ التَّصْويرِ فِي شِعْرِ وَد الرَّضِي(2)

قَصِيدة ( النَّاحِر فُؤَادِي ) نموذجًا
بقلم الأستاذ : عماد الدين قرشي محمد حسن
ويستمر الشَّاعر محمد ود الرَّضي في وصف حالة الهيام بالمحبوب وشدة الوله فيه ، فيقول في المقطع الخامس :
” أَبْصَرِ طَرْفِي طَرْفَكْ حَكَى طَرْفِي المَطَرْ
  وقَلْبِي كـأنَّه طَــيـرُه خَــافـــِقْ وانْفَــــطَـــــرْ
  احْـــــــذَرُوا يَــــا أحِــــــبَّه حُبَّ الرِّيمْ خَطَرْ
  يَكْفِى البَىَّ حَاصِلْ مِـــــنْ حَالِـــي الفَطَرْ “
وتتجلى براعة التَّشكيل الفني لدى الشَّاعر في المستوى البلاغي والفني حينما استعان في إبراز المعاني التي تضمنها هذا المقطع عدد من الأدوات البلاغية منها: المجاز المرسل في قوله ” حَكَى طَرْفِي المَطَرْ” حيث المراد بالطرف هنا الدمع فالعلاقة بين (الطرف) و( الدمع ) علاقة محل وحال ، فاطلق المحل وهو (الطرف) وأراد الحال وهو (الدمع) ، فصار مجاز مرسل علاقته المحلية ، حيث أراد أن يشبه الدمع بالمطر . وكذلك استخدم التَّشبيه التَّمثيلي في البيت الثاني من ذات المقطع ، حيث يقول : ” وقَلْبِي كـأنَّه طَــيـرُه خَــافـــِقْ وانْفَــــطَـــــرْ ” فشبه خفقان قلبه بالطائر الذي ينفض جناحيه عندما يطير فيتحرك جناحاه ويضرب بهما جنبات جسده محدثًا صوت الطيران ، وليس هذا فحسب وإنَّما قلبه انفطر، فاحذروا يا رفاقي حبَّ الرِّيم خطر.
وفي المقطع التالي يصف الشَّاعر ذلك الحفل البهيج وتلك الفتاة التي أسرت القلوب، فقال:
” شَادِي الحَفْلَة طَنَّ والإكليل سَفَرْ
 والنَّشَّابْ تَـــوَاتَرْ للفَـــــاطِــرْ غَــفَـــرْ “
بدأ الشَّاعر هذا المقطع بقوله 🙁 شادي الحفلة)، ويقصد به المُغني، و(طنَّ) من الطنين وهو صوت الرنين ، و( الإكليل ) هوما يكلل به الرأس من ذهب ونحوه ، أو هو حلية نسائية للشعر تزين بالجوهر ، وهو كناية عن المرأة هنا ، و( سفر ) بمعنى بدا وظهر ، وفحوى الكلام أنَّ مغني الحفل بدأ في الطرب والفتيات الحسناوات بدأن في الظهور . و( النَّشاب ) هو سهم القوس ، و( تواتر) أي استعدَّ للانطلاق ، وفي قوله : ( للفاطر غفر ) يظهر هنا الأثر القرآني للشاعر فقد تناص هذا القول مع الآية القرآنية : ( قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ۚ ) الآية 10 من سورة إبراهيم ، وهو تناص لفظي ودلالي ، وقد كان الشَّاعر موفقًا فيه ؛ حيث تناسب مع المعنى الذي يقصده ، وفحوى كلامه في هذا المطلع : وأعدَّ كل واحدٍ منا كنانته وقوسه و سهام عينيه ليرمي ظبيه ويظفر بالإكليل ( فتاته ) ، والله غافر الذنب . ثم يستمر الشَّاعر في وصف فتاته التي تمركز معنى الحفل فيها، فيقول:
” ظَبْىَ الــرِّيمْ تَبَخْتَرْ للآسَادْ ظَـــفَـرْ
  مَعَنَى الحَفْلَة كائن فِي واحِدْ نَفَرْ “
فانظر إلى براعة التَّشكيل على مستوى الصُّورة في قوله : ” ظَبْىَ الــــرِّيمْ تَبَخْتَرْ ” ، فقد استعار الشَّاعر( الظبي ) لفتاته ؛ لما يمتاز به من خفة الحركة والرشاقة وقوة البدن وصعوبة صيده ، فجعله يمشي متبخترًا مختالًا ، فاستعمل الاستعارة التَّصريحية ، فشبَّه فتاته بظبي الريم وحذف المشبه وصرَّح بلفظ المشبه به على سبيل الاستعارة التَّصريحية ، والمشبه هو في الأصل مبتدأ محذوف ، فأصل الكلام ( هو ظبي ) فالشَّاعر هنا مهتم بإبراز الصَّفات الجمالية للمحبوب ، فحذف المبتدأ بغرض التركيز على الخبر، وتقوية الوصف فيه ، فاشتمل التَّعبير على حذفٍ واستعارة ، وفحوى كلامه : قامت فتاة من أجمل الحسان تتمايل بجسمها اللَّدن وتتبختر في مشيتها نحو ساحة الرَّقص ، فاطلق الفرسان نشابهم فأصابت قلوبهم كلَّهم ، ونالت إعجاب الحاضرين كلهم رجالًا ونساء وتمركز الحفل حولها .
وفي المقطع التالي يخاطب الشَّاعر ظبيه الذي صاده فيقول:
” وَرِّينَا النَّشَاهِـــدْ لَي دَارْةْ القَــــمَــــرْ
  وأتَّكِي فِي المُبَنَّى ولُولِيبُو الثَّـــمَــرْ “
فقد استهل هذا المقطع بتكرار الفعل ( وَرِّينَا ) بما يشبه معناه ( النَّشَاهِـــدْ ) رغم اتفاقهما في المعنى العام و اختلافهما في الدلالة ، فالرؤية هي إدراك المرئيات ، والمشاهدة هي المعاينة عن قرب ، والتكرار يعرِّفه ابن الأثير في ( المثل السَّائر) بأنَّه : ” دلالة اللَّفظ على المعنى مردَّدًا ” ، والتِّكرار أحد علامات الجمال البارزة ، ويُراد به التَّكثير في الفعل ، وفائدته التَّرسيخ في الذهن ، وهو أبلغ من التَّأكيد ؛ فالتوكيد إعادة اللَّفظ بعينه ، والتكرار إعادة اللَّفظ بنطقه وما يشبه معناه ، ولعل الغرض منه هنا في مطلع هذا البيت التَّلذذ بذكر المكرر. وربما يكون الشَّاعر قد وقع في مخالفة نحوية حينما أدخل (ال) التَّعريف على الفعل المضارع ( نشاهد ) ، لكن الشَّاعر حسبه الكوفيون فقد أجازوا له ذلك للضرورة الشعرية مستشهدين ببيت الفرزدق :
ما أنت بالحكم الترضى حكومته ولا البليغ ولا ذي الرأى والجدل
ويستمر شاعرنا في حشد الصور البيانية فاستخدم الاستعارة التَّصريحية في قوله
 ” دارة القمر” ودارة القمر هي هالته ، ويقصد بها فتاته ، حيث شبه فتاته بدارة القمر ، فحذف المشبه وصرَّح بلفظ المشبه به على سبيل الاستعارة التصريحية ، وفحوى كلامه يقول : دعينا نرى ونشاهد هالة القمر عند اكتماله في ليلته ، وما أبدع من بنى هذا الجسد ،وذلك الصدر الطامح الذي يراقص ويهز ثماره برفق حينما يتحرك .
ويكمل الشَّاعر الوصف الحسي لمحبوبه فيقول:
” والجِّيــــــدْ المُحَزَّزْ نَسِّــــفْبُه العَمَــرْ
  مَرَّه ومَرَّه أجْدَعُه فِي طَيْ الضَّمَرْ “
وفي قوله: ( الجِيد المحزَّز ) كناية عن طول الشعر إذ يستلزم من طول العنق ، طول صاحبه ، وحينما يقوم الجِيد برمي الشَّعَر على الخصر يمنة ويسرة ؛ فهذا دليل على طوله ، وفحوى كلامه أنَّ محبوبه ذو عنق طويل محدد الأطراف ، ذو لحم غير بائن يرمي بالشعر مرة ، ومرة أخرى يرمي به فوق الخصر الضامر النَّحيل .
وفي المقطع التالي يصف الشَّاعر رقصة المحبوب وصفًا دقيقًا جمع فيه كل صفات محاسن المرأة ، فقال :
” الكَتْفَ المُهَدَّلْ والجِّسْمَ إنْتَبَــــرْ
  والصَّادْ والمُزَمْزَمْ والغَيمْ والتَّبَرْ “
بدأ الوصف بالكتف لأنَّ حركة الرَّقص التَّقليدية القديمة للمرأة كانت تعتمد على الكتف بشكل كبير ، فالكتف أكثر الأعضاء حركة ، ثم وصف هذا الكتف بأنَّه مهدَّل ، وهَدَل الشيء هدلًا : أرسله إلى أسفل وأرخاه ، ونقول هدل السِّحاب إذا تدلى ودنا من الأرض ، والجسم ( انتبر) أي : ( ارتفع ) ، فالكتف يرتخي إلى أسفل ثم يرتفع الجسم إلى أعلى ، وهذه كناية على أنَّه جسم لدن أملس لا ترهل فيه ، ثم يأتي الشَّاعر في الأبيات التالية بعدد من الكنايات يصف بها المحبوب ، فـ( الصاد) كناية عن العين ؛ لأنَّها تشبه حرف الصاد في رسمه ، و ( المزمزم ) كناية عن الفم الصَّغير، ولعلها مأخوذة من زمزم الشيء إذا لَمَّ أطرافه ، و( الغيم ) كناية عن الأسنان و( التِّبر) هو نبات ذو ثمرة ناصعة البياض يشير بها إلى بياض الأسنان ، وكل هذه الكنايات لم تستخدم من قبل بهذه المعاني وربما يكون مبدعنا ود الرَّضي هو الذي أتى بها . ثم يستمر الشَّاعر في الوصف الحسي لفتاته ، فيقول :
” والضَّهَــــرْ المَــتَــــنَّى والتَّيـــــــهْ يَا الأبَـــرْ
  دَا الخَــــلاَّنِي سَاهِــرْ مَـــــاءَ عِيــنَيْ تَبَـــرْ “
و( الضهر المتنَّى ) كناية عن العز والنَّعيم الذي نشأت فيه محبوبته ، ولعل هذا الذي جعل الشَّاعر ساهرًا محرومًا من النَّوم وعيونه قد امتلأت بالدموع وفاضت . وتتوالي بعد ذلك الصُّور الجميلة في القصيدة ، وهي تكشف عن براعة غير مسبوقة في توظيف اللغة وتطويعها. يقول ود الرضي:
لاَحِــمْ كَتْفُه كَفَــــلُه مَـــاجْ جِيــدُه الوَفَرْ
عَمْعَمْ دِيسُه دِرْعُه فِى بَعْضُه إنْضَفَرْ
حَاكِى الغَيــــمْ تَنَقَّلْ يَـــا غَـــالِي النَّفَــــرْ
قُولْ للوِزَّة غُــورِى فِى عَينِــــكْ ضَغَـــرْ
فالمعنى العام لتلك الأبيات أنَّ تلك الفتاة تثنت في رقصها حتَّى لاحم الكتف الكفل ، ومال جيدها وعنقها ، وعمَّ وانتشر شعرها والتفَّ حول جسمها وانضفر .
وعلى المستوى اللغوي استخدم الشَّاعر الأسلوب الإنشائي الطلبي وقرن فيه بين الأمر المشفوع بالرجاء ، والنداء الموسوم بالتدليل ، فيطلب منها أن تتنقل وتحاكي الغيم في مشيتها التي لا ريث فيها ولا عجل ، ويظهر هنا تأثره بالشعر العربي القديم ؛ فقد استخدم الشعراء العرب تشبيه مشية المحبوبة في بطئها بالغيم ، فهذا قول الشاعر المراد بن منقذ العدوي :
قُطُفَ المَشيِ قَرِيبَاتِ الخُطَى بُدَّناً مِثلَ الغَمَامِ المُزمَخِرّْ
القطوف : البطيء أو البطيئة في السَّير ، أي تمشي على مهلها دلاًلاً وتغنجًا خطواتها قريبة من الأخرى .
 ومحبوبة شاعرنا لا مثيل لها في الرَّقص حتَّى (الوزة) التي عُرفت ببراعتها في الرقص سَرَتْ فيها حُمَّى الغيرة ، فهي لا تضارع فتاته في الرَّقص ، ثم يستخدم الشَّاعر لفظة ( غوري ) للوزة بمعنى انصرفي وهي لفظة تحمل دلالة الانصراف النهائي الذي لا عودة فيه .
والنَّص بشكل عام يعدُّ من النَّمط الوصفي ؛ فقد تنوعت أساليبه ما بين الخبر والإنشاء ، وكثر فيه توظيف المشتقات ، واستعمال النعوت ، واستخدام الصور البيانية ، والجمل الاسمية . هذا فضلًا عن اللَّغة التي تميز بها النَّص ، واهتم بها ود الرَّضي بشكل خاص ، وقد أولاها عنايته واهتمامه ، فألفاظ الشاعر تكتنز دلالات فنية ومعنوية عالية ، وتمتاز بالدِّقة والايحاء في مقاطع عديدة في شعره أشرنا لها سابقًا ، ويظهر أثر البادية في كثير من صوره وأساليبه ولغته .
وفي الختام أرجو أن يكون البحث قد استوفى عناصره المقترحة ، وأحاط بها خُبرا ، وما هي إلا محاولة لتذوق الجمال في نصٍ جميلٍ .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى