Uncategorizedمقالات

رشفات من سلاف الادب

جَمَالِياتُ التَّشْكِيلِ وَ بَرَاعَةُ التَّصْويرِ فِي شِعْرِ وَد الرَّضِي(1)

قَصِيدة ( النَّاحِر فُؤَادِي ) نموذجًا
بقلم الأستاذ : عماد الدين قرشي محمد حسن
الجمالُ طاقةٌ تستنفر كل قوى الإبداع والعطاء ، وتتجلى في الذات الإنسانية بصور وأشكال متنوعة ، ويبقى الأثر الجميل دائمًا دالًا على الذات التي صنعته ، والشعر كما هو معروف عبارة عن شكلٌ ومضمونٌ ، ويأتي مبلغ جماله من استيفائه لعناصر متعددة تساعد على إبراز القيم الجمالية ضمن التَّشكيل الشعري ، ومن هنا جاءت تسمية هذا المقال : ( جمالُ التَّشكيل وبراعة التَّصوير في شعر ود الرَّضي) ، وهي دراسة سعى البحث فيها إلى استجلاء مواطن الجمال في تشكيلات ود الرضي الشعرية بمستوياتها المختلفة ، واتَّخذ البحث أغنية ( النَّاحر فؤادي ) نموذجًا لاستقراء مواطن الجمال وبراعة التَّصوير في تلك اللَّوحة البديعة التي رسمها شاعرنا ود الرَّضي .
النَّص :
النَّــــــــــــاحِرْ فُؤَادِي مُوْلِعْ جُــــوفِي حَرْ
أَضْرَم نَارَ وَجْـــدِي نَسَّــــــــــــــامْ السَّحَرْ
 اشتمل هذا المطلع على ثلاثة مستويات لتشكيل المعنى :
أولًا : على المستوى الصَّرفي : بدأ الشَّاعر مطلع هذا النَّص بالجملة الاسمية وما تمثله من ثبات واستقرار ، وقد يلجأ الشَّاعر إلى التَّعبير بالجملة الاسمية عن الحاجات التي تحتاج إلى توصيف وتثبيت ، فأراد الشَّاعر أن يؤكد ثبات الصفة فاستعمل صيغة اسم الفاعل ( النَّاحر) ، وهو صفةٌ دالةٌ على الحدث والذات ، والتَّعبير باسم الفاعل أدوم وأثبت من الفعل ، وقد جاء اسم الفاعل من الفعل الثلاثي المجرد ( نحر) ، و قد خلق إيراد اسم الفاعل هنا تجانسًا موسيقيًا ألقى بظلاله على عجز البيت ، فيخاطب الشَّاعر موصوفه ( النَّاحر) بأنَّ نيران الحبِّ وويلاته قد عصفت به ، وقطَّعت أوردته وشرايينه وأشعلت في جوفه النَّار ، ولعلَّ الشَّاعر يشير إلى سطوة الحبِّ ونفاذ حكمه فيمن يقع فيه . ثم أتى باسم الفاعل ( مولع ) من الفعل الثلاثي المزيد ( أولع ) ، وقد ناسب هذا البناء المبالغة والقوة في المعنى فضلًا عن الثَّبات والاستقرار .
ثانيًا : على المستوى الموسيقي : فقد تميَّز هذا النَّص بالغنائية العالية بفعل اهتمام الشَّاعر بالموسيقى الداخلية التي توفرها الأنساق الصَّوتية والإيقاعية بدءًا بالبحر العروضي وانتهاء بـتتابع صيغ اسم الفاعل ، وتكرار بعض الكلمات ، وتكرار حرف الراء وهو صوت لثوي مكرر مجهور ، ومن معانيه الحركة والتَّرجيع والتَّموضع والرِّقة ، وهذا ما يتناسب مع وَلَهِ الشَّاعر وفيضه ؛ وقد ترك ذلك أثرًا فعَّالًا إذ هيأ له صفة التِّكرارية من خلال ترديد الصِّيغ لا الألفاظ ؛ ممَّا خلق إيقاعًا يتصف بالإيحاء والإثارة : ( الناحر) ، ( مولع ) ، ( دامع ) ، ( شاغل) ، ( المايق ) ، ( ساه ) ، ( لاحم ) ، ( ماح ) ، ( غالي ) ، ( كاين ) ، ( مافق ) وغيرها .
ثالثًا : على مستوى الصُّورة : فقد استعان الشَّاعر بالصورة الخيالية ، فاستخدم الاستعارة المكنية في قوله : ” أضرم نار وجدي نسَّام السَّحر” لتشكيل هذه الصُّورة ؛ حيث شبَّه الشَّاعر (الوجد) بالوقود الذي يشتعل ، فحذف المشبه به ورمز إليه بشيء من لوازمه وهو (أضرم) على سبيل الاستعارة المكنية ، والقرينة هي اثبات الاشتعال للوجد ، والمعنى أنَّ نار الحُبِّ منتشرة في الوجد ، والوجد هو حرقة الشَّوق ، والذي زاد من اشتعالها هو نسيم السَّحر الذي يضرب به المثل في طيبه ، ولعل الغرض من الاستعارة هنا الشمول .
و في المقطع الثاني يبدأ ود الرَّضي بذات الجملة الاسمية ليؤكد ثبات الصِّفة ، فيقول:
” دَامِــــعْ لَـــجَّ طَـــرْفِي يَـا أَبْ طَــــرْفَاً سَحَـــرْ
 والبَسَــــــمْ المُفـَلَّـــــــجْ للأكْبــــــَـــادْ نَــــحَــــــــــرْ “
وفي هذين البيتين استخدم الشَّاعر مستويين لتشكيل المعنى ، المستوى اللُّغوي ، ومستوى الصُّورة ، وفي هذين البيتين يصف الشَّاعر حاله وما أصابه من ولهٍ بالمحبوب ، فاستهلَّه باسم الفاعل ( دامع ) ليثبِّت تلك الصِّفة التي لازمته ما دام يرى ذلك الطَّرف السَّاحر. وبعد أن فرغ الشَّاعر من وصف مشاعره انعطف إلى الحديث عن وصف محبوبه ، فصورها وفق رؤيته الشعرية ، فبدأ بالوصف الحسي ، فاستخدم الأسلوب الطلبي ، الذي استهله بمخاطبة المحبوبة بحرف النداء ، فيقول : يا ساحر العينين قد أدمع الشَّوق والتَّبريح عيني ، وأذابت البسمة والفلجة كبدي ، و(البسم المفلج ) البسم : هو الثَّغر أو الفم الصَّغير ، و(الفلج) هي مساحــة صغيرة بين الأسنان الأربع في الفك العلوي وكانت العرب تعتبرها سمة جمال للمرأة وما زالت ، وقد نالت الأسنان حظًا وافرًا في الشعر العربي ، فهذا عنترة بن شداد يصف سحر الابتسامة وموضعها فيقول :
فَوَدِدْتُ تَقْبِيلَ السُّيُـوفِ لأَنَّهَا لَمَعَتْ كَبَارِقِ ثَغْرِكِ الْمُتَبَسِّـمِ
ففي قوله: “ لَمَعَتْ كَبَارِقِ ثَغْرِكِ الْمُتَبَسِّـمِ” تشبيه تمثيلي يوضح مدى جمال أسنان تلك المحبوبة . فهو عندما رأى لمعان السيوف تذكر لمعة أسنان محبوبته عندما تبسمت .
وكذلك تغنى شعراء الأغنية السُّودانية بجمال الثَّغر المتبسم ، فهذا أبو صلاح في قصيدته ( يا من فاح طيب رياه) يقول :
” يا من بدى نور محياه
 يفوق بدر السماء في ضياه
 إذا لاح برق ثناياه
 السحاب يبكي يذوب في مياه “
وهذا الشَّاعر الكبير عبد الرحمن الريح يقول في قصيدته ( قلبي همالو) :
شعرو حاكي الغيم حاجبو هلالو فر بسمو نغيم والبروق لالو
ومن الأدب الشعبي نسمع عكير الدامر يتغنى بجمال الثَّغر حينما يفترُّ ، ويكشف عن بياض الأسنان التي تعكس شعاعًا كالبرق ، ويبدو ذلك الفلج الطبيعي الذي يصرعنا ، فيقول :
أَخَدَرْ لَيهُو ضُلْ فَوقُو المَحَاسِنْ شَرَّنْ
أَفْلج فَاطرو زَي برق السَــــواري الكرَّنْ
يِتقَسَــــمْ مَقَـــــاطِع في المَشِي ويتْحـــرَّنْ
زي فــــرخ القطا الأمــــــاتو رَكَّـــنْ وفـرَّنْ
ثم يستمر الشَّاعر في وصف حاله في البيت الثاني من نفس المقطع، فيقول:
” لاَ يَبْــــــرُدْ حَـمِيــــمِي لَــــــوْ أَحْسَى البَحَــــــرْ
 دَارِى ومَاكْ مِـــدَارِى يــا سَـــمْــحَ النَّـــحَـــــــــرْ”
وتتجلى لنا شعرية التَّشكيل الفني لدى ود الرّضي في هذين البيتين، فنجد على المستوى النَّحوي قدَّم جواب الشَّرط على الشَّرط لأهميته في المعنى، إذ لا يتعلق الجواب بالفعل الشَّرطي؛ لأنَّ الأسلوب في هذا النَّمط يحمل معنى التَّعميم، فـ (لو) حرف شرط غير جازم يُستعمل في الامتناع أو في غير الإمكان، أي: امتناع الجواب لامتناع الشَّرط؛ فيمتنع برود نار الحُبِّ وويلاته لامتناع حدوث الشَّرط وهو شرب كل ماء البحر! فكأنَّ لسان حاله يقول: لن تبرد نار الشَّوق التي تتقد في جوفي حتَّى ولو شربتُ كل ماء البحر. والذي زاد المقطع جمالًا تكرار النداء في البيت الأول والرابع، والنداء من الأساليب التي تثير الحيوية والحركة في النَّص الشعري، وعلى المستوى الموسيقي استعان الشَّاعر بالجناس بين كلمتي: (دَارِى) و (مِـــدَارِى).
وعلى المستوى اللغوي يستهلُّ ود الرَّضي المقطع الثالث بأسلوب خبري، يستخدم فيه أسلوب القصر، فيقول:
” مَا أطْــــــرَاكْ حِبَيْـــبِى إِلاَّ وقَلْبِى فَــــرْ
 أتْــــلَــــظَّى وأكْــــظُمْ الغَيـــــظْ الــــــوَفَــرْ “
فاستخدم الشَّاعر طريقة النفي والاستثناء؛ ليؤكد المعنى ويوجزه ، وليمكِّنه من الذهن ” مَا أطْـرَاكْ حِبَيْــبِي إِلاَّ وقَلْبِي فَــــرْ” فقصر الشَّاعر ذكر الحبيب على خفقان القلب ، فالذكر صفة والقلب الخافق موصوف ، والغرض تخصيص ذكر المحبوب بخفقان القلب ، وفحوى كلامه في هذا البيت أنَّه كلَّما يأتي ذكرك يخفق قلبي وأتحرق بنيران الغرام وأحسُّ بحميمها ولكني أكتم غيظي الكثير وأحبسه وأمسكه . وليجعل الشَّاعر صيرورة وديمومة هذا الفعل صدَّر كلامه بالفعل المضارع: (أتلظى، أكظم)، ويستمر الشَّاعر في وصف المحبوب وتصوير حاله فيقول:
” يَنْعِشْ رُوحِى طِيبَكْ لَوْ مَحْيَكْ سَفَـرْ
 زَىْ مَـــــــا بَىَّ تَفْعَــــــلْ ذَنْبَــــكْ مُغْتَفَــــرْ “
وفحوى كلامه: حينما ينكشف وجهك الوضَّاح وتبدو أمام ناظري ينفحني شذى عطرك الفوَّاح، فأفيق وأنهض من الهلكة التي سقطتُ فيها، فافعل ما بدا لك فمهما يكن من أمرٍ فذنبك مغتفر.
وفي المقطع الرابع يستعطف الشَّاعر المحبوب، فاستحثه بالطلب، فقال:
” أَرِى البَىَّ يَــــا مَــــــنْ سَاقِينِي الجُرَرْ
  إِنِّى المِنْ غَرَامَكْ عُرْضَه لِكُـلْ ضَرَرْ “
فالشَّاعر في هذا المقطع كثَّف في الطلب؛ فجمع بين الأمر والنداء بغرض الاستعطاف، فيقول في فحوى كلامه: انظر ما آل إليه حالي يا من سقيتني الألم جُرَر؛ فبسبب غرامك صِرتُ عُرضةً لكلِّ ضرر. و(التَّجَرْجُرُ) و (الجُرَرْ) هو صَبُّ الماء فِي الْحلق، وقيل: هو أن يجرعه جرعًا متداركًا حتَّى يسمع صوت جرعه، وَجَرْجَرَهُ الْمَاءَ: أي سَقَاهُ إِيَّاهُ على تلك الصُّورَة؛ قَال جرِير:
وَقَدْ جَرْجَرَتْهُ الْمَاءَ حَتَّى كَأَنَّهَا تُعَالِجُ فِي أَقْصَى وِجَارَيْنِ أَضْبُعَا
ويستمر الشَّاعر في وصف حالة الهيام بالمحبوب وشدة الوله فيه بتشكيلات فنية رائعة تجلت فيها موهبته الشعرية نحتسي من سلافها المعتق بإذن الله في العدد القادم ، وحتى جديد اللقاء لكم مني أطيب التحايا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى